كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقال تعالى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ: {وَإِذَا قِيلَ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} وَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ. وَلِهَذَا أَقْسَمَ الرَّبُّ على وُقُوعِ الْعذاب وَالسَّاعَةِ. وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ على وُقُوعِ السَّاعَةِ وَعلى أَنَّ القرآن حَقٌّ فَقال: {زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وَقال: {وَقال الَّذينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وَقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ}.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قال. فَإِنَّ الْمُتَذَكِّرَ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَدْعُوا إلَى الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالثَّوَابِ كَمَا يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا يَدْعُوهُ إلَى السُّؤَالِ فَيُنِيبُ وَإِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ فلابد لَهُ مِنْ الْإِنَابَةِ حِينَئِذٍ لِيَنْجُوَ مِمَّا يَخَافُ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي فِرْعَوْنَ {لعله يَتَذَكَّرُ} فَيُنِيبُ {أَوْ يخشى} وَكَذَلِكَ قال لَهُ مُوسَى {هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تزكى وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فَجَمَعَ مُوسَى: بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا.
وقال فِي حَقِّ الْأَعْمَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى}. فذكر الِانْتِفَاعَ بِالذكرى كَمَا قال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. وَالنَّفْعُ نَوْعَانِ: حُصُولُ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعُ النِّقْمَةِ. وَنَفْسُ انْدِفَاعِ النِّقْمَةِ نَفْعٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ نَفْعٌ آخَرُ وَنَفْسُ الْمَنَافِعِ الَّتِي يُخَافُ مَعَهَا عذاب نَفْعٌ وَكِلَاهُمَا نَفْعٌ. فَالنَّفْعُ تَدْخُلُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ وَالثَّلَاثَةُ تَحْصُلُ بِالذكرى كَمَا قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى}. وَأَمَّا ذِكْرُ التَّزَكِّي مَعَ التَّذَكُّرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ الْخَشْيَةَ مَعَ التَّذَكُّرِ. وَذَلِكَ أَنَّ التَّزَكِّيَ هُوَ الإيمان وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذي تَصِيرُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ زَكِيَّةً كَمَا قال فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} وَقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وَقال: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} وَقال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَقال مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تزكى وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. وَعطف عَلَيْهِ {أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى} لِوجوه:
أحدها: أَنْ التَّزَكِّيَ يَحْصُلُ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَا يَتَذَكَّرُ عُلُومًا عَنْهُ كَمَا قال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} ثُمَّ قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكتاب وَالْحِكْمَةَ}. فَالتِّلَاوَةُ عَلَيْهِمْ وَالتَّزْكِيَةُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْلِيمُ الْكتاب وَالْحِكْمَةِ خَاصٌّ بِبَعْضِهِمْ. وَكَذَلِكَ التَّزَكِّي عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَهُوَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ لَهُ عُلُومٌ يذكرهَا فَعَرَفَ بِتَذَكُّرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قوله: {أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى} يَدْخُلُ فِيهِ النَّفْعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَالتَّزَكِّي أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ التَّزَكِّي. فَإِنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ خَافَ وَرَجَا فَتزكى. فذكر الْحُكْمَ وَذَكَرَ سَبَبَهُ. ذَكَرَ الْعَمَلَ وَذَكَرَ الْعِلْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ.
فَإِنَّهُ لَا يَتزكى حَتَّى يَتَذَكَّرَ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ الرَّسُولِ كَمَا قال: {سَيذكر مَنْ يخشى}. فلابد لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ خَشْيَةٍ وَتَذَكُّرٍ. وَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ وَقَدْ تَتِمُّ الْمَنْفَعَةُ فَيَتزكى. وَقولهُ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} فِيهِ أيضًا نَحْوَ هَذِهِ الْوُجُوهِ. فَإِنَّ الشَّاكِرَ قَدْ يَشْكُرُ اللَّهَ على نِعَمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ. وَأيضًا فَإِنَّ التَّذَكُّرَ يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِنْ الْعِقَابِ وَطَلَبَ الثَّوَابِ فَيَعْمَلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَالشُّكْرِ على النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ. وَأيضًا فَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ عُلُومٍ سَابِقَةٍ وَمِنْهَا تَذَكُّرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلشُّكْرِ. تَذَكُّرُ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَأيضًا فَإِنَّ الشُّكْرَ يَقْتَضِي الْمَزِيدَ مِنْ النِّعَمِ وَالتَّذَكُّرَ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا وَقَدْ يَكُونُ خَوْفًا مِنْ الْعذاب. وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَالشَّاكِرُ قَدْ يَشْكُرُ الشُّكْرَ الْوَاجِبَ لِئَلَّا يَكُونَ كَفُورًا فَيُعَاقَبُ على تَرْكِ الشُّكْرِ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَعُقُوبَاتٍ أُخَرٍ.
وَالْمُتَذَكِّرُ قَدْ يَتَذَكَّرُ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَيُطِيعُهُ طَلَبًا لِرَحْمَتِهِ. وَأيضًا فَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا الْعُقَابَ وَالشَّكُورُ يَكُونُ لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهـ. فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟».
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَن أحدكُمْ الْمَوْتَ: إمَّا مُحْسِنٌ فَيَزْدَادُ إحْسَانًا وَإِمَّا مُسِيءٌ فَلعله أَنْ يُسْتَعْتَبَ». فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا وَفِي ذَنْبٍ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ. وَهُوَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ يَقول: «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك على وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ». وَقَدْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قولهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هِيَ نِعَمُ اللَّهِ فَتَقْتَضِي شُكْرًا وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِهِ تَقْتَضِي تَذَكُّرًا لِذُنُوبِهِ يُوجِبُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر} فَيَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ ذُنُوبِهِ {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} لِرَبِّهِ على نِعَمِهِ. وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِالْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ وَكُلُّ مَا يُخْلِفُهُ اللَّه فَهُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَكُلما نَظَرَ إلَى مَا فَعَلَهُ رَبُّهُ شَكَرَ وَإِذَا نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ اسْتَغْفَرَ. وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ تَذَكُّرَ ذُنُوبِهِ وَعِقَابِ رَبِّهِ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ تَذَكُّرُ آلَائِهِ ونعمه فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ.
قال تعالى: {اذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ. فَالْمُتَذَكِّرُ يَتَذَكَّرُ نِعَمَ رَبِّهِ وَيَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ. وَأيضًا فَهُوَ ذَكَرَ الشَّكُورِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الشُّكْرَ ثَابِتٌ فِي الدنيا وَالْآخِرَةِ. وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فذكر الْمَبْدَأَ وَذَكَرَ النِّهَايَةَ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَجْمَعُ مَا قِيلَ وَاَللَّهُ سبحانه أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَالتَّذَكُّرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَذَكُّرِهِ كَمَا قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذيرُ} أَيْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِالنَّذيرِ الَّذي جَاءَكُمْ وَبِتَعْمِيرِكُمْ عُمْرًا يَتَّسِعُ لِلتَّذَكُّرِ.
وَقَدْ أَمَرَ سبحانه بِذِكْرِ نِعَمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقولهِ: {وَاذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكتاب وَالْحِكْمَةِ}. وَالْمَطْلُوبُ بِذِكْرِهَا شُكْرَهَا كَمَا قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكتاب وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذكرونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. وَقولهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ خُوطِبَ بِالقرآن. وَكَذَلِكَ قولهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. فَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ إذْ هِيَ كَافُ الْخِطَابِ. وَلما خُوطِبَ بِهِ أَوَّلًا قُرَيْشٌ ثُمَّ الْعَرَبُ ثُمَّ سَائِرُ الْأُمم صَارَ يَخُصُّ وَيَعُمُّ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَفِيهِ مَا يَخُصُّ قُرَيْشًا كَقولهِ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}. وَقولهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. وَفِيهِ مَا يَعُمُّ الْعَرَبَ وَيَخُصُّهُمْ كَقولهِ: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} وَالْأُمِّيُّونَ يَتَنَاوَلُ الْعَرَبَ قَاطِبَةً دُونَ أَهْلِ الْكتاب. ثُمَّ قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لما يَلْحَقُوا بِهِمْ}. فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِ الْعَرَبِ فِيهِ إلَى يوم الْقِيَامَةِ كَمَا قال ذَلِكَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا. فَإِنَّ قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} أَيْ فِي الدِّينِ دُونَ النَّسَبِ إذْ لَوْ كَانُوا مِنْهُمْ فِي النَّسَبِ لَكَانُوا مِنْ الْأُمِّيِّينَ. وَهَذَا كَقولهِ تعالى: {وَالَّذينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لما نَزَلَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ فَقال: «لَوْ كَانَ الإيمان مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ». فَهَذَا يَدُلُّ على دُخُولِ هَؤُلَاءِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانُوا هُمْ مِنْهُمْ فَقَدْ دَخَلُوا فِي قولهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. فَالْمِنَّةُ على جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ. وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إنْسِيٌّ مُؤْمِنٌ. وَهُوَ مِنْ الْعَرَب أَخَصُّ لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَاءَ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ أَخَصَّ. وَالْخُصُوصُ يُوجِبُ قِيَامَ الْحُجَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ إلَّا بِالإيمان وَالتَّقْوَى لِقولهِ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْصَارُ أَفْضَلَ مِنْ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ رَبِيعَةَ وَلَا مُضَرَ بَلْ مِنْ قَحْطَانَ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ على أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ هُودٍ لَيْسُوا مِنْ وَلَدِ إبراهيم. وَقِيلَ إنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ لِحديث أَسْلَمَ لما قال: «ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» وَأَسْلَمَ مِنْ خُزَاعَةَ وَخُزَاعَةُ مِنْ وَلَدِ إبراهيم. وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَنْصَارَ أَبْعَدُ نَسَبًا مِنْ كُلِّ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْقَبَائِلِ. وَمَعَ هَذَا هُمْ أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ قُرَيْشٍ إلَّا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَفِيهِمْ قُرَشِيٌّ وَغَيْرُ قُرَشِيٍّ. وَمَجْمُوعُ السَّابِقِينَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ غَيْرُ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ.
فَقولهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} يَخُصُّ قُرَيْشًا وَالْعَرَبَ ثُمَّ يَعُمُّ سَائِرَ الْبَشَرِ لِأَنَّ القرآن خِطَابٌ لَهُمْ. وَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِمَلَكِ لَا يُطِيقُونَ الْأَخْذَ مِنْهُ وَلَا جِنِّيٍّ. ثُمَّ يَعُمُّ الْجِنَّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أُرْسِلَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالقرآن خِطَاب لِلثَّقَلَيْنِ وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ جَمِيعًا كَمَا قال: {يَا مَعشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فَجَعَلَ الرُّسُلَ الَّتِي أَرْسَلَهَا مِنْ النَّوْعين مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ. فَإِنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ مُشْتَرِكُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ. فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَنْسِلُونَ وَيَغْتَذُونَ وَيَنْمُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ. وَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا تَنْكِحُ وَلَا تَنْسِلُ. فَصَارَ الرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ الثَّقَلَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقدر الْمُشْتَرِك بَيْنَهُمْ الَّذي تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ قولهُ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} هُوَ كَقولهِ: {وَاذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكتاب وَالْحِكْمَةِ} وَقولهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكتاب وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. ثُمَّ قال: {فَاذكرونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَشُكْرِهَا. وَقال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وقال لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَاذكروا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} فذكر النِّعَمِ مِنْ الذِّكْرِ الَّذي أُمِرُوا بِهِ. وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قال: {وَاذكر فِي الْكتاب إبراهيم}، {وَاذكر فِي الْكتاب مُوسَى}، {وَاذكر فِي الْكتاب إسْمَاعِيلَ}، {وَاذكر فِي الْكتاب إدْرِيسَ} وَقال: {وَاذكر عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ}، {وَاذكر عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، {وَاذكر إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ}. وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
قال تعالى: {إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
وَمِمَّا أُمِرُوا بِتَذَكُّرِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا على قدرتِهِ وَعلى الْمَعَادِ كَقولهِ: {وَيَقول الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يذكر الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}. وَقَدْ قال لِمُوسَى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وَهِيَ تَتَنَاوَلُ أَيَّامَ نِعَمِهِ وَأَيَّامَ نِقَمِهِ لِيَشْكُرُوا وَيَعْتَبِرُوا. وَلِهَذَا قال: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ؛ وَذِكْرَ النِّقَمِ يَقْتَضِي الصَّبْرَ على فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَرِهَتْهُ النَّفْسُ.
وعن الْمَحْظُورِ وَإِنْ أَحَبَّتْهُ النَّفْسُ لِئَلَّا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ مِنْ النِّقْمَةِ.
فَصْلٌ:
وَقولهُ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الَّذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا}. وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ قولهُ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إلَّا الأشقى الَّذي كَذَّبَ وَتولى}. وَهَذَا الصَّلْيُ قَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحديث الصَّحِيحِ الَّذي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قال: بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إمَاتَةً حَتَّى إذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ. فَبُثُّوا على أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ. فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. فَقال رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ». وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقال: ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبِي ثَنَا سُلَيْمَانَ التيمي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فَأَتَى على هَذِهِ {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَهْلُهَا الَّذينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ. وَأَمَّا الَّذينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّ النَّارَ تُمِيتُهُمْ ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيُشَفَّعُونَ فِيهِمْ فَيَشْفَعُونَ فَيُؤْتَى بِهِمْ إلَى نَهْرٍ يُقال لَهُ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيَوَانُ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ». فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا الصَّلْيَ لِأَهْلِ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أَهْلُهَا وَأَنَّ الَّذينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّهَا تُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُشَفَّعُ فِيهِمْ فَيَخْرُجُونَ وَيُؤْتَى بِهِمْ إلَى نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ مُتَوَاتِرٌ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حديث أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَفِيهَا الرَّدُّ على طَائِفَتَيْنِ. على الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذينَ يَقولونَ (إنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُخَلَّدُونَ فِيهَا) وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعلى مَنْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ (أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أحد). فَإِنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا تَكْذيبٌ لِهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ. وَفِيهِ رَدٌّ على مَنْ يَقول (يَجُوزُ أَنْ لَا يُدْخِلَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أحدا النَّارَ) كَمَا يَقولهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الشِّيعَةِ وَمُرْجِئَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُمْ الْوَاقِفَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ. فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَقْتَضِي دُخُولَ بَعْضِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَخُرُوجِهِمْ. وَالْقول بـ: (أَنَّ أحدا لَا يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ) مَا أَعْلَمُهُ ثَابِتًا عَنْ شَخْصٍ مُعين فَأَحْكِيَهُ عَنْهُ. لَكِنْ حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَقال: احْتَجَّ مَنْ قال ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ أُجِيبُوا بِجَوَابَيْنِ. أحدهِمَا: جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ قالوا. هَذِهِ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ. لَكِنَّ قولهُ بَعْدَهَا {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} لَا يَبْقَى فِيهِ كَبِيرُ وَعْدٍ فَإِنَّهُ إذَا جُنِّبَ تِلْكَ النَّارَ جَازَ أَنْ يُدَخِّلَ غَيْرَهَا. وَجَوَابُ آخَرِينَ قالوا: لَا يَصْلَوْنَهَا صَلْيَ خُلُودٍ. وَهَذَا أَقْرَبُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الصَّلْيَ هُنَا هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْمُكْثُ فِيهَا وَالْخُلُودُ على وَجْهٍ يَصِلُ الْعذاب إلَيْهِمْ دَائِمًا. فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ وَخَرَجَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلْيِ لَيْسَ هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ لاسيما إذَا كَانَ قَدْ مَاتَ فِيهَا وَالنَّارُ لَمْ تَأْكُلْهُ كُلَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.